ما الذي تبقى من المدرسة التصويرية في الشعر؟
مقالة تناقش المدرسة التصويرية في الشعر وما تبقى منها وكيف يمكننا الاستفادة من المدرسة التصويرية في الشعر المُعاصر
المدرسة التصويرية في الشعر

شعر وأشعار
المدرسة التصويرية imagism مدرسة نشأت في أوروبا وأمريكا في مطلع القرن العشرين، وكانت رد فعل أو ثورة على الشعر الرومانسي والشعر الفيكتوري كمدرستين غربيتين في الكتابة الشعرية، وليست فكرة الرومانسية في حد ذاتها على سبيل المثال، وكانت ترفض ما في هاتين المدرستين من مط وتطويل وعاطفية مفرطة أو مشاعر مُهَلْهَلَة أو نزعة أخلاقية متزمتة وبأسلوب غير شعري في الأساس.
ما الذي تبقى من المدرسة التصويرية في الشعر؟
دعت المدرسة التصويرية إلى أن تبتعد القصيدة عن الإطناب وتلتزم بدقة الصورة التي ترسمها، وفي الفرع الموضوعي من هذه المدرسة objective imagism كان الشاعر يرفض التعبير عن مشاعره أو يكتفي بالحد الأدنى منها عند رسم الصورة بحيث تستطيع الصورة التعبير عن نفسها، وطبعا لا بد أن تكون الصورة مرسومة بدقة من خلال انتقاء التفاصيل الدالة، والصورة هنا صورة عامة لا تقتصر على الصورة الثابتة، أي قد تكون الصورة متحركة كأن تصف ماريان مور Marianne Moore قنديل البحر في قصيدة لها بنفس الاسم وتصور زئبقية حركته وحركة الصوت في القصيدة تجاهه وإحجام هذا الصوت عن صيده، وكأنه وجد فيه صدى لزئبقية النفس البشرية أو زئبقية الإبداع ذاته، وكأن كوامن النفس البشرية وعملية الإبداع عصيتان على الإمساك والاستيعاب الكامل. وقد تكون الصورة المرسومة في القصيدة انعكاسا لصورة ذاتية متشكلة في نفس الشاعر دون أن تقترن بصورة خارجية تمكن معاينتها والتحقق منها موضوعيا.
والتصويرية كانت من بشائر الحركة الحداثية كحركة شعرية مقيدة في الزمان وفي المكان، كما أنها دعت إلى الاستفادة من التقاليد الشعرية غير الغربية حتى يمكن إثراء القصيدة الغربية ذاتها.
وينبغي علينا هنا أن نميز بين أي مدرسة شعرية كمدرسة محدودة في الزمان وفي المكان وبين التقنيات التي تستعملها والتي يمكن توظيفها في أي كتابة تنتمي لأي مدرسة أخرى، هذا إذا قبلنا الآن وجود أو إمكان وجود فكرة المدارس بالشكل التقليدي أو المدارس المتتابعة تاريخيا، فالواقع الآن يقول إن هناك عشرات وربما مئات الاتجاهات ولا يشترط في أي شاعر أو أديب أن ينتمي لمدرسة بعينها، فقد تجسد النصوص التي يكتبها نفس الأديب خليطا من هنا وهناك وقد تبرز فيها أساليب جديدة، لدرجة أن كل كتاب من كتب أي أديب – إذا كان يحرص على أن يكون له أسلوبه الأدبي الخاص – قد يصير “مدرسة” في حد ذاته يختلف أسلوبها عن أسلوب نفس الأديب في كتبه الأخرى.
التصويرية كحركة شعرية محددة قرينة عصرها وملابساتها الأدبية والفنية والتاريخية والجمالية، وكانت حركة مهمة للخطو بالشعر الأوربي والأمريكي خطوة للأمام بعيدا عن الابتذال وبعيدا عن الاستفاضة غير المحببة، مع العلم بأن هذه الاستفاضة عاودت الظهور في الشعر الغربي بعد ذلك، ولكن بعد أن مرت بمرحلة التصويرية ومرحلة الحداثة، لتصير أكثر تكثيفا وأكثر قدرة على إصابة الهدف بأقصر الطرق، فالغالب على الشعر الغربي وربما بعض الشعر العربي الآن أن الإنسان وقضاياه وهواجسه وشكوكه وتطلعاته صاروا لبنة أساسية في هذا الشعر، ولكن بعيدا عن الفوضى أو التهويمات التي كانت منتشرة قبل ظهور الحداثة حسب التطورات التاريخية للأدبين العربي والغربي.
ومن هنا، يمكننا كشعراء معاصرين أن نستفيد من تقنيات المدرسة التصويرية العامة دون أن نتقيد بها كمدرسة في كتابة الشعر: دقة التصوير، الوضوح، التكثيف، البُعد عن التهويمات الشعرية أو الاستفاضة غير المُحْكَمة، فالاستفاضة قد تكون تقنية في حد ذاتها في تجربة صوت شعري يشعر بالاقتراب من الانفجار على سبيل المثال، وتكون هذه الاستفاضة هنا ذات جماليات خاصة تستدعيها طبيعة القصيدة.
وفي هذا الصدد، ينبغي علينا ألا ننسى أن الكثيرين من الشعراء الذين انتموا للمدرسة التصويرية الغربية في بداية حياتهم، انتقلوا بعد ذلك إلى الإطالة في قصائدهم، ولكن هذه الإطالة استفادت من تقنيات التصويرية بحيث صار الطابع التصويري مجرد ملمح من ملامح قصائدهم، كما نجد عند إزرا باوند وهيلدا دوليتل ومريان مور وغيرهم. كما ينبغي علينا الالتفات إلى أن بعض قصائد مدرسة التصويرية كان منغلقة على ذاتها نتيجة لتكثيف التصوير وعدم وجود قرائن سياقية فيها تساعد القارئ على فك شفرتها.
باختصار، التصويرية كمدرسة ماتت منذ ثلاثينات القرن العشرين تقريبا، ولكن بقيت بعض تقنياتها حاضرة كتقنيات شعرية عامة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها في أي قصيدة أيا كان انتماؤها الشعري. وهذا حال كل المدارس الشعرية، فتموت المدرسة تاريخيا، وتبقى تقنياتها التي يمكن الاستفادة منها لاحقا، وتظل هذه التقنيات مجرد وسائل وسط تقنيات كل المدراس الشعرية السابقة وما يستجد من تقنيات، وتكون كلها متاحة لأي شاعر لاحق، دون أن يغلب أحدها على الآخر، لأنها ستصير خاضعة للتجربة الشعرية التي يتناولها الشاعر في قصيدته ورؤية هذا الشاعر للقصيدة بوجه عام.