طه حسين ورحلة التعليم من ترفٍ للأثرياء لـ “كالماء والهواء”
في هذه المقالة سنتعرف على طه حسين ورحلة التعليم من ترفٍ للأثرياء لـ “كالماء والهواء”
رحلة طه حسين

طه حسين
في عام 1933 في إحدى اجتماعات البرلمان المصري آنذاك رأى النواب أن انتشار التعليم الإلزامي بين عامة الناس هو مفسدة لهم، وأن انتشاره خطر اجتماعي يضر لا ينفع، وأن ” الأمية خيرًا منه”.
وردًا على هذا الرأي جاء التساؤل الساخر للمفكر العظيم “طه حسين” في جريدة (كوكب الشرق):
“أليس خيرًا من هذا أن للحكام أن يظل الشعب جاهلًا قوي البنية ينتج ولا يستفيد، كما أن الخير لصاحب الماشية أن يظل الحيوان حيوانًا، ولكنه على ذلك قوي البنية ينتج ولا يستفيد؟”
هكذا كانت رحلته طوال حياته للتصدي للجهل ومروجي الجهل. لعل حربه الكبرى كانت جعل التعليم كالماء والهواء حسب مقولته الخالدة التى سعى جاهدًا لتحقيقها حتى وفاته.
معارك طه حسين الثقافية كثيرة وخالدة فهو اللحوح الذي لم ييأس الجريء الذي غير وغير الكثير في الكتابة وفي الأدب وفي التعليم وفي الصحافة، لم ينحنِ أمام القوالب الجامدة كما كان يفعل سابقوه، بل سعى دائمًا للتغيير والتحديث.
أول الغيث
” من استطاع منكم أن يدفع أجر التعليم فليفعل، من لم يستطع منكم أن يدفع أجر التعليم فليفعل، ومن لم يستطع فأجره على الدولة.”
كان هذا جزء من كلمة ألقاها عام 1943م في حفل أقامته جمعية المعلمين في دار الهندسة التطبيقية بالعباسية “كلية الهندسة عين شمس الآن”.
تأتي البداية مع كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” المنشور عام 1936:
- تناول الكتاب منهجًا كاملًا لإصلاح منظومة التعليم، وتناول مصر وموقعها الثقافي من الدول الأوروبية والدول المحيطة بها.
- شدد وأكد على ضرورة جعل التعليم مجاني وأنه ضرورة قومية لا ترف يخص الأثرياء فحسب.
- تناول مشكلة ازدحام الفصول الدراسية وإعاقتها للعملية التعليمية وتأثيرها السلبي على المعلمين والتلاميذ وجودة العملية التعليمية، تلك المشكلة التي ما زلنا نعاني منها حتى الآن.
- نادى بتعليم الطلاب في التعليم ما قبل الجامعي اللغتين اللاتينية واليونانية بجانب الإنجليزية والفرنسية كلغات تساعد في تلقيهم العلوم المختلفة.
- ناشد بضرورة التخلى عن التبذير فى إنشاء وتأسيس المدارس واستغلال الموارد المالية في التوسع فى إنشاء المزيد من المدارس القريبة من القرى والأماكن الفقيرة والنائية.
الكتاب ليس مجرد فرضيات وأفكار نظرية بل أورد مقالات وتقارير ناقشتها الحكومات والبرلمان والجهات الإدارية.
في عام 1942 اختير لوزارة المعارف في هذا الوقت “أحمد نجيب هلالي” الذي اختار بدوره الدكتور “طه حسين” ساعده الأيمن له مستشارًا فنيًّا للوزارة.
وفي سعيهم الدؤوب لإصلاح منظومة التعليم ومناقشتهم لخطط الإصلاح في البرلمان صدر قرار وزارى عام 1944 لإقرار مجانية التعليم لطلاب التعليم الابتدائي تلك كانت الخطوة الأولى في طريق طويل.
كانت المرحلة التالية عندما رفض الدكتور طه حسين تولي منصب وزير المعارف وهذا عام 1950 في حكومة مصطفى النحاس حتى تقر الحكومة مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية قائلًا له:
” طموحاتي فى التعليم كبيرة، بينما الذي أعرفه أن ميزانية الدولة محدودة ولا تسمح بتحقيقها. لقد قلت إن التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء، وإذا توليت الوزارة ولم أحقق ما ناديت به لن أكون راضيا بمنصب لا أحقق فيه ما أريد بسبب أن الدولة نفسها لا تعطي التعليم الأولوية اللازمة”.
وكان له ذلك فأقرت الحكومة المجانية وتولى هو منصب وزير المعارف منذ عام 1950 حتى 1952 في خلال تلك الفترة ساند الدكتور طه حسين الطلاب وأثرى المنظومة التعليمية على مستوى المنهج والإدارة.
فمن تعليم مكلف وترف خاص بالأثرياء وتهابه الحكومة والدولة، فتراه خطرًا غير صالح للعوام.إلى مجانية كاملة حتى التعليم الثانوي.
ولعل سعيه إلى إقرار مجانية التعليم ليشمل التعليم الجامعي هو الذي لم ينجح فيه بشكل كبير. فقط نجح في إمهال الطلبة الذين يعجزون عن دفع المصروفات الدراسية لأطول وقت ممكن.
إذ كتب إلى وزير المالية خطابًا خاصًا، طلب ألا يعرض على مجلس الوزراء ويحمل الخطاب اقتراحًا محددًا وهو ”إعفاء الطلاب في السنوات النهائية من رسوم القيد، وإمهال الطلاب الآخرين والإذن لهم بدخول الامتحان في الدور الأول”.
ولعلنا يجب أن نعلم أنه في هذا الوقت كان هناك فريق وتيار سياسي كامل ضد مشروع طه حسين لتوسيع مجانية التعليم ويراها خطرًا بشكل كبير على الحياة السياسية المصرية.
الآن وقد عرفنا دور هذا العظيم في جعل التعليم حقًّا لكل فرد فقيرًا كان أو غنيًّا فلنلقِ نظرة على سيرته وحياته.
من هو طه حسين؟
هو الدكتور والأديب والمؤرخ والروائي والناقد والباحث والمفكر والمترجم والصحفي، عميد الأدب العربي رائد من رواد النهضة الثقافية والعلمية في مصر الحديثة.
ولد طه حسين في قرية في صعيد مصر عام 1889. أصيب طه حسين في بداية حياته وهو طفل بمرض في عينيه، ونتيجة للجهل واستخدام وصفات علاج خاطئة فقد بصره. ولعل هذا ما كان له الأثر الكبير عليه في سعيه المستمر لمحاربة الجهل والتخلف.
التحق في بداية حياته بكُتاب القرية ليتعلم العلوم القرآنية بالإضافة للعربية والحساب. وكان ما أبرزه من نبوغ وتفوق عقلي فاق أقرانه ما أهله لاستكمال تعليمه في مدارس الأزهر، ومن بعدها في الجامعة المصرية التي فتحت أبوابها عام 1908 وكان من أول المنتسبين لها.
لم تعقه إعاقته وفقدان بصره عن التفوق والتميز بين أقرانه، بل استطاع أن يحصل على الدكتوراه عام 1914 ويلتحق ببعثة دراسية إلى فرنسا لاستكمال دراسته.
ولعل السيرة الذاتية العبقرية “الأيام” التي كتبها والتي تجسد حياته خير شاهد على تلك الرحلة. تلك الرحلة التي غيرت الكثير في وعيه ورؤيته لتطوير المنظومة التعليمية بعد ذلك اقتداء بالنموذج الأوروبي.
شغل العديد من المناصب وحصد العديد من التكريمات منها:
- أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية.
- عميدًا لكلية الآداب.
- أشرف على تحرير مجلة (كوكب الشرق).
- مديرًا لجامعة الإسكندرية.
- مستشارًا فنيًا لوزارة المعارف، ومراقبًا للثقافة.
- وزيرًا للمعارف.
- ثم عاد آخر الأمر للجامعة كأستاذ غير متفرغ.
- وتسلم رئاسة تحرير جريدة الجمهورية.
- اختياره عضوًا محكمًا في الهيئة الأدبية الطليانية والسويسرية؛ وهي هيئة عالمية على غرار الهيئة السويدية التي تمنح جائزة بوزان.
- منحته جامعة الجزائر الدكتوراة الفخرية، وجامعة باليرموا الإيطالية وجامعة مدريد.
- رئاسة مجمع اللغة العربية.
- رأس مجلس اتحاد المجامع اللغوية في العالم العربي.
- رشح لنيل جائزة نوبل مرتين.
- حصل على قلادة النيل.
دعا طه حسين إلى نهضة أدبية، وعمل على الكتابة بأسلوب سهل واضح مع المحافظة على مفردات اللغة وقواعدها، ولقد أثارت آراؤه الكثيرين كما وجهت له العديد من الاتهامات، ولم يبالِ طه بهذه الثورة ولا بهذه المعارضات القوية التي تعرض لها ولكن استمر في دعوته للتجديد والتحديث، فقام بتقديم العديد من الآراء التي تميزت بالجرأة الشديدة والصراحة فقد أخذ على المحيطين به ومن الأسلاف من المفكرين والأدباء طرقهم التقليدية في تدريس الأدب العربي، وضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية، ومدرسة القضاء وغيرها، كما دعا إلى أهمية توضيح النصوص العربية الأدبية للطلاب، هذا بالإضافة لأهمية إعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية، والأدب ليكونوا على قدر كبير من التمكن والثقافة بالإضافة لاتباع المنهج التجديدي، وعدم التمسك بالشكل التقليدي في التدريس.
توفي هذا العظيم عام 1973 عن عمر يناهز 83 عام بعدما أثرى العلم والفكر.
ترك إرثًا كاملًا من الأعمال الأدبية والروائية والمترجمات والدراسات النقدية والفكرية في كافة المجالات الثقافية.
لعل أبرزها:
- على هامش السيرة.
- الفتنة الكبرى: علي وبنوه / عثمان.
- الأيام.
- المعذبون في الأرض.
- في الشعر الجاهلي.
- من حديث الشعر والنثر.
وغيرها العديد والعديد.
قال عنه العقاد: “رجل جريء العقل مفطور على المناجزة والتحدي؛ فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير”.
ورغم مرور كل تلك السنوات يظل أثر دكتور “طه حسين” خالدًا في مجالي الثقافة والتعليم.
وحتى الآن ما زالت أطروحاته الفكرية تثير الفكر والتساؤلات ويدار حولها الحوارات والدراسات في العديد من المحافل العلمية والثقافية.
هذا الرجل الذي شاء الله أن يحرمه نور البصر، أنعم عليه بفضيلة البصيرة؛ فأنار الطريق أمام الملايين ليلتحقوا بركب العلوم والثقافة.
ويبقى أعظم ما أنجز حاضرًا وهو تحقيق حلمه بإتاحة التعليم للجميع وألا يكون الفقر عائقًا أمام من أراد أن يرى نور المعرفة.