قصيدة الهايكو للشاعرة سونيا سانشيز
قصيدة الهايكو للشاعرة سونيا سانشيز
قصيدة الهايكو

سونيا سانشيز
تقول الشاعرة الأمريكية المعاصرة التي من أصل أفريقي سونيا سانشيز Sonia Sanchez في مقدمة ديوانها “هايكوات صباحية” عن اكتشافها لقصيدة الهايكو: “اكتشفتُ نفسي، وجدتُ صحوةً، وعيًا بأنني لم أكن مرتبطة بالطبيعة فحسب، وإنما كنتُ أيضا مرتبطة بطبيعة نفسي وطبيعة الآخرين. ومنذ تلك اللحظة التي رأيتُ فيها عروق الدم خلف العيون الجميلة، ورأيتُ السوائلَ في الأسنان، ورأيتُ طلاءَ المينا في الألسنة، عرفتُ أن الهايكو ليست ذاكرة قصيرة الأجل، بل ذاكرة طويلة الأجل[1]”.
قصيدة الهايكو
من الملاحظ هنا أن الطبيعة لم تعد تلك الطبيعة المادية الموجودة حولنا، وإنما امتد معناها ليشمل طبيعة الذات وطبيعة الآخرين من البشر، كما أن قصيدة الهايكو ترتبط بالذاكرة ولا تسجل موقفا عارضا قد ينمحي في أي لحظة أو يفقد قيمته بعد القراءة الأولى، وإنما هي تسجيل لذاكرة الإنسان وحركة وعيه ولاوعيه وتفاعلهما مع الحياة الشخصية للذات ومع كل ما يحيط بها من بشر وكائنات وموجودات، من خلال نصوص قصيرة قابلة لأن تصير جزءا من الذاكرة طويلة الأجل للبشرية جمعاء.
وفي الصفحة التالية من مقدمة ديوانها، تربط سونيا سانشيز بين الهايكو وموسيقى البلوز التي لها قيمة كبيرة في حياة الأمريكان من أصل أفريقي إذ ترتبط في وجدانهم بالهوية وبوجودهم العرقي، وتقول إنهما “يساعداننا دائما على أن نحافظ على ذاكرتنا وكرامتنا”، أي أنها تحوّل مسار قصيدة الهايكو من فلسفتها الشرقية إلى فلسفة عرقية خاصة تساهم في الحفاظ على الهوية الأفروأمريكية وتحفظ الذاكرة العرقية وتحافظ على كرامة الأفروأمريكيين، على الأقل في كتابة الشاعرة لهذا النوع من الشعر وفي إثراء قصيدة الهايكو من خلال إكسابها صبغة أفريقية أمريكية، الأمر الذي يؤكد على أن أي شكل أدبي صالح لأن يكتسب حياة جديدة ومظاهر جديدة في كل ثقافة ينتقل إليها، بل يكتسب داخل الثقافة الواحدة عدة أشكال ومظاهر وفلسفات.
ومن قصائدها
- my feet
- are crying
- blues
ترجمة أولى
قدماي
تبكيان
بموسيقى البلوز
ترجمة ثانية
قدماي
موسيقى بلوز
باكية/صارخة
ترجمة ثالثة
قدماي
موسيقى بلوز
هائلة
فبالرغم من قلة عدد الكلمات في القصيدة، هناك نوع من الغموض التركيبي فيها، فالترجمة الأولى فسّرت are crying على أنها الفعل cry (يبكي) في زمن المضارع المستمر. والترجمة الثانية فسّرت crying على أنها صفة لموسيقى البلوز بمعنى باكية. والترجمة الثالثة فسّرتْ crying على أنه صفة تدل على المبالغة. وأيا كان التفسير، هناك مساواة في القصيدة بين قدمي الصوت وموسيقى البلوز (وهو نوع من الموسيقى الحزينة التي يتميز بها الأفروأمريكان وتعتبر من علامات هويتهم الثقافية والفنية والشعبية).
وأنا أميل إلى الترجمة الثانية نظرا لأنها تتسق مع طبيعة موسيقى البلوز، وكأن رحلة الصوت – التي ترمز لها القدمان وارتباطهما بالمشي والحركة والطريق والدرب – في المجتمع الأمريكي رحلة مليئة بالأحزان والآلام (ومن الجدير بالذكر أن الشاعرة تضع هذه القصيدة تحت قسم في الديوان بعنوان duende وتدل على الآلام والعاطفة والإلهام).
باختصار، ينظر الصوت في القصيدة إلى قدميه فيرى فيهما علامة على هويته وعلى دربه الخاص في مجتمع يهمّش الأفروأمريكيين، وكأن آلام المشي/الرحلة هي نفسها مسيرة موسيقى البلوز بوصفها علامة على الحزن والألم والتنفيس والهوية.
ومن قصائدها الأخرى المفعمة بالفلسفة الأفريقية، القصيدة التالية
you asked: is there
no song that will
?bring rain to this desert
سألتَ:
ألا توجد أغنيةٌ
تجلبُ المطرَ لهذه الصحراءِ؟
سأقرأ النص أولا وفقا للفلسفة الأفريقية التي تتبناها الشاعرة، ثم سأقرأه قراءة عامة بعد ذلك.
السياق العام للقصيدة عبارة عن شخص يقف وسط صحراء أو يسير فيها أو يتأملها عن قرب، وهي صحراء توجد خارج أفريقيا بالتأكيد، وفي الغالب الأرجح أنها صحراء أمريكية، سواء أكانت صحراء حرفية أم صحراء رمزية مجازية. وهذا الشخص أفريقي أو له جذور أفريقية، ويستحضر الفلسفة أو الممارسة أو الشعيرة الأفريقية الخاصة المتمثلة في استرضاء السماء بالأغاني والطبول، إيمانا بأن هذه الأغاني والطبول وما يصاحبها من رقصات خاصة تساهم في الإسراع بسقوط المطر على المناطق الجافة. ولذلك يطرح هذا الشخص السؤال لثلاثة أسباب على الأقل: أولا، التأكيد على أنه مغترب عن وطنه أو جذوره، وثانيا، التأكيد على أن حياته في الغربة عبارة عن صحراء لا سبيل لأن تنزل عليها الأمطار، وثالثا، التأكيد على غياب الجانب الروحاني في بيئة علمية لا تؤمن بـ “الخرافات”.
أما بالنسبة للشخص الذي لا يعرف الفلسفة الأفريقية، فسينظر إلى الأغنية هنا على أنها رمزا للفن وللتخييل البشري، فلو كانت الأغنية حزينة ستجعل السامع يبكي وتكون دموعه مساوية للمطر هنا، وإذا كانت أغنية مبهجة ستجعل السامع يبتهج ويحس بالحياة خارجة وكأن الأغنية تجعل هذه الصحراء تتلاشى. ويمكن تأويلها تأويلا أعمق يرى أن الفن يثري الحياة ويكاد ينافس الطبيعة في الخدمات الحياتية والنفسية والوجدانية التي يقدمها للبشر.
ومن زاوية ثالثة، يمكن النظر إلى القصيدة على أنها ترى أن محاولة البشر لمد جسور نحو السماء/المطر/الله ستنجح في أن يحدث تواصل بينهم وبينه/بينها. وأنا كمسلم مثلا يمكنني أن أقرأها كالتالي:
سألتَ:
ألا توجد صلاة استسقاء
تجلبُ المطرَ لهذه الصحراءِ؟
على أساس أن من يسأل السؤال في القصيدة يعيش في بيئة لا تؤمن بصلاة الاستسقاء وتعتبر المطر مجرد ناتج لعوامل طبيعية من تبخر وتكثيف وما إلى ذلك.
ويمكنني كشخص عربي أيضا أن أنظر إلى الأغنية على أنها أغنية لها تاريخ خاص في حياتي ويمكنني عند سماعها أن أستحضر سياق سماعي السابق لها وأستحضر الأشخاص الذين ارتبطت هذه الأغنية بهم في حياتي الخاصة، وكأن استحضارهم يبدد إحساسي بالوحدة أو الغربة أو الفقد، أو أن أستحضر تاريخ ثقافتي الخاصة التي تعتبر الأغاني لها وجود طبيعي في حياة الإنسان ولا يحرّمها دين أو شرع، وأعتبر وجودي في بيئة تحرمها صحراءَ في ظل غياب هذه الأغاني.
وها هي قصيدة ثالثة لها:
suddenly the morning
takes you back another
time another continent
فجأة، يعود بك الصباحُ للوراء، إلى زمنٍ آخر وقارةٍ أخرى.
تجسد القصيدة لحظة تحول في حياة الشخصية المخاطبة التي ربما كانت هي نفسها الصوت في القصيدة وهو يخاطب نفسه. وتجسد القصيدة التقاء لحظتين والتقاء مكانين، وهو التقاء لا يُحدث تماهيا تاما بينهما، وإنما يمثل المكان الأول والزمان الأول مؤشِّرًا أو محوِّلا أو تحويلة أو لحظة انجذاب عفوية في الغالب نابعة من تفاعل ذاكرة المخاطب وتاريخه مع لحظة زمنية معينة في مكان معين، ونتج عن هذا التفاعل أن المخاطب أدرك أن في هذه اللحظة وهذا المكان ما يجعله يرى فيهما زمانا آخر ومكانا آخر، كأن ينقلنا منظر الإشراق هنا إلى إشراقا آخر عايشناه من قبل في مكان آخر، أو تقتحم رائحة ما ذاكرتنا لتستخرج من داخلها إحساسنا بنفس الرائحة في مكان آخر، فيتجسد في وعينا هذا المكان الآخر بكل تفاصيله ويطغى على المكان الماثل أمامنا.
في هذه الأمثلة الثلاثة التي سأكتفي بها هنا، يوجد تفاعل بين ثقافتين/مكانين/زمنين/إحساسين/تصورين/رؤيتين، وهو تفاعل أقربُ للتداخل أو تلاشي الحاضر في الغائب. وبذلك تستلهم سونيا سانشيز روح قصيدة الهايكو وتطوّعها على ثقافتها الخاصة، بحيث تكشف عن تجليات وعي الذات في لحظة معينة فارقة بإمكانها أن تنقل الذات إلى لحظة انجذاب أو سفر في المكان وفي الزمان لتعوّض الافتقاد إلى الزمان والمكان الآخرين في المكان والزمان الحاليين. كما أن الشاعرة تكتب قصيديها بلغة سليمة تجمع ما بين السلاسة والتعبير الشفّاف والعميق في آن.
[1] Sonia Sanchez. Morning Haiku. Beacon Press, 2010. P. xiii